سورة فصلت - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فصلت)


        


يقول الحق جلَ جلاله: {و} اذكر {يوم نَحْشُرُ أعداء الله} من كفار المتقدمين والمتأخرين {إِلى النارِ فهم يُوزَعون}؛ يُضمون ويُساقون إلى النار، ويُحبس أولهم على أخرهم، فيستوقف سوابقهم حتى تلحق بهم تواليهم، وهي عبارةٌ عن كثرة أهل النار، وأصله: من وزَعته، أي: كففته. {حتى إِذا ما جاؤوها} أي: حضروها، و {حتى}: غاية للحشر، أو: ليوزعون، و {ما}: مزيدة؛ لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور، فبمجرد حضورهم {شَهِدَ عليهم سمعُهُم وأبصارُهم وجلودُهم} أي: بَشَراتهم {بما كانوا يعملون} في الدنيا، من فنون الكفر والمعاصي، بأن ينطقها الله تعالى، ويظهرعليها آثار ما اقترفوا بها. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن المراد بشهادة الجلود: شهادة الفروج، كقول الشاعر:
أوَ سالم مَنْ قد تث *** نَّى جِلْدُه وابْيَضَّ رَأسُه
فكنَّى بجلده عن فرحه، وهو الأنسب؛ لتخصيص السؤال بها في قوله تعالى: {وقالوا لجلودهم لمَ شهدتم علينا}، فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقُبحاً، وأجلب للحزن والعقوبة، مما تشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطها. روي: أن العبد يقول يوم القيامة: يا رب، أليس قد وعدتني ألا تظلمني؟ فيقول تعالى: فإن لك ذلك، قال: فإني لا أقبل عليّ شاهداً إلا من نفسي، قال تعالى: أوَ ليس كفى بي شهيداً، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيُختم على فِيهِ، وتتكلم أركانُه بما كان يعمل، فيقول لهن: بُعْداً لكُنَّ وسُحْقاً، عنكُنَّ كنتُ أُجادل.
{قالوا} في جوابهم: {وأنطقَنا اللهُ الذي أنطق كلَّ شيءٍ} من الحيوانات، وأقدرنا على بيان الواقع، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح، وما كتمناها. أو: ما نطقنا باختيارنا، بل أنطقنا الله الذي انطق كل شيء. وقيل: سألوها سؤال تعجُّب، فالمعنى حينئذ: وليس نطقنا بعجب من قدرة الله تعالى الذي أنطق كل شيء، {وهو خلقكم أولَ مرةٍ وإليه تُرجعون}؛ فإنَّ مَن قدر على خلقكم أول مرة، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه، لا يتعجب من إنطاقه جوارحكم. ولعل صيغة المضارع، مع أن هذه المحاورة بعد البعث والرجع، كما أن المراد بالرجوع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالعبث، بل ما يعمه، وما يترتب عليه من العذاب الخالد الترقب عند التخاطب، على تغليب المتوقع على الواقع، مع ما فيه من مراعاة الفواصل، فهذا على أنه من تتمة كلام الجلود، وقيل: هو من كلام الحق تعالى لهم، فيُوقف على شيء وهو ضعيف. وكذا قوله: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعُكم ولا أبصارُكم ولا جلودُكم}، يحتمل أن يكون من كلام الجلود، أو: من كلام الله عزّ وجل وهو الظاهر، أي: وما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم، ولو خفتم من ذلك ما استترتم بها، {ولكن ظننتم أنَّ الله لا يعلمُ كثيراً مما تعملون} من القبائح الخفية، فلا يظهرها في الآخرة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كنت مستتراً بأستار الكعبة، فدخل ثلاثة نفر؛ وثقفيان وقرشي، أو: قرشيان وثَقَفي، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: سمع جهرنا ولا يسمع ما أخفينا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وما كنتم تستترون...} الآية، فالحُكم المحكي حينئذ يكون خاصّاً بمَن كان على ذلك الاعتقاد من الكفرة، انظر أبا السعود.
{وذلكم ظنُّكم الذي ظننتم بربكم أرداكم}؛ أهلككم، ف {ذلك}: مبتدأ، و {ظنكم}: خبر، و {الذي ظننتم بربكم}: صفة، و {أرداكم}: خبر ثان، أو: ظنكم: بدل من {ذلك} و {أرداكم}: خبر، {فأصبحتم} بسبب الظن السوء {من الخاسرين} إذ صار ما منحوا لسعادة الدارين سبباً لشقاء النشأتين.
{فإِن يصبروا فالنارُ مثوىً}؛ مقام {لهم} أي: فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر، ولم ينفكوا به من الثوى في النار، {وإِن يستعينوا} أي: يسألُوا العتبى؛ وهو الاسترضاء {فما هم من المُعتَبين}؛ المجابين إليها، أي: وإن يطلبوا الاسترضاء من الله تعالى ليرضى عنهم، فما هم من المرضين؛ لما تحتّم عليهم واستوجبوه من السخط، قال الجوهري: أعتبني فلان: إذا عاد إلى مسرتي، راجعاً عن الإساءة، والاسم منه: العتبى، يقال؛ استعتبته فأعتبني، أي: استرضيته فأرضاني. وقال الهروي: إن يستقيلوا ربهم لم يقلهم، أي: لم يردهم إلى الدنيا، أو: إن أقالهم وردهم لم يعملوا بطاعته، كقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
الإشارة: أعداء الله هم الجاحدون لوحدانيته ولرسالة رسله، وهم الذين تشهد عليهم جوارحهم، وأما المؤمن فلا، نعم إن مات عاصياً شهدت عليه البقع أو الحفظة، فإن تاب أنسى الله حفظته ومعالمه في الأرض ذنوبه. قال في التذكرة: إن العبد إذا صدق في توبته أنسى اللهُ ذنوبه لحافظيه، وأوحى إلى بقع الأرض وإلى جميع جوارحه: أن اكتموا مساوىء عبدي، ولا تظهروها، فإنه تاب إليَّ توبة صادقة، بنية مخلصة، فقبلته وتبتُ عليه، وأنا التوّاب الرحيم.
وفي الآية حث على حسن الظن بالله، وفي الحديث: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله عزّ وجل» وقال أيضاً: «يقول الله عزّ وجل: أنا عندَ ظنِّ عبدي بي...» الحديث فمَن ظنَّ خيراً لقي خيراً، ومَن ظنّ شرّاً لقي شرّاً. وبالله التوفيق.


يقول الحق جلّ جلاله: {وقيّضنا} أي: سيَرنا، أو: قدّرنا، {لهم} أي: كفار مكة في الدنيا {قُرَناء} سواء من الجن والإنس، أو: سلطنا عليهم نظراء لهم من الشياطين يستولون عليهم، كقوله: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، {فَزَيَّنوا لهم ما بين أيديهم} من أمور الدنيا، واتباع الشهوات، والتقليد لأسلافهم، حتى حادوا عن الحق، {وما خَلْفَهم} من أمور الآخرة، حيث ألقوا إليهم: ألا بعث ولا حساب. أو: ما تقدّم من أعمالهم وما هم عازمون عليها، {وحقّ عليهم القولُ} أي: ثبت وتقرّر عليهم كلمة العذاب، أو: تحقق موجبها ومصداقها، وهي قوله تعالى لإبليس: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، حال كونهم {في} جملة {أمم قد خلت مِن قبلهم} أي: قبل أهل مكة {من الجن والإِنس} كانوا مُصرّين على الكفر والعصيان، {إِنهم كانوا خاسرين} حيث آثروا الباطل على الحق، وهو تعليل لاستحقاقهم العذاب. والضمير لهم وللأمم.
الإشارة: قال القشيري: إذا أراد الله بعبده سوء، قيّض له إخوان سوء وقرناء شر، هم الأضداد له فيما راموا، وإذا أراد الله بعبد خيراً قيّض له قرناء خير، يُعِينونه على الطاعة، ويَحْمِلونه عليها، ويدعونه إليها، وإذا كانوا إخوانَ سوءٍ يحملونه على المخالفات، ويدعونه إليها، ومن ذلك الشيطانُ. ثم قال: وشرُّ قرين للمرء نفسُه، ثم الشيطان، ثم شياطين الإنسِ، فزيّنوا لهم ما بين أيديهم من طول الأمل، وما خلفهم من نسيان الزَّلَلِ، والتسويف في التوبة، والتقصير في الطاعة. اهـ.
قلت: والله ما رأينا الفلاح والخسران إلا من الخلطة. قال بعضهم: والله ما أفلح مَن أفلح إلا بصحبة مَن أفلح، ولا سيما صبحة العارفين؛ فساعة معهم تعدل عبادة سنين بالصيام والقيام وأنواع المجاهدة، ولله در الجيلاني رضي الله عنه حيث قال:
فَشمرْ ولذْ بالأَولياءِ فإِنّهم *** لَهُمْ مِنْ كِتَاب الله تلْكَ الوَقَائعُ
هُمُ الذُّخْرُ للْملهوف والكَنزُ للرَّجا *** ومنهم يَنَالُ الصَّبُّ مَا هو طامِعُ
بهم يُهتدى للْعَيْنِ مَنْ ضَلَّ في العَمَى *** بهمْ يُجْذب العُشَّاقُ والرَّبْع شَاسِعُ
هُمُ النّاسُ فالزَمْ إِنْ عَرفْت جَنَابَهم *** ففيهم لِضُرّ العالمين مَنَافِعُ


يقول الحق جلّ جلاله: {وقال الذين كفروا} من رؤساء المشركين لأتباعهم، أو: بعضهم لبعض: {لا تسمعوا لهذا القرآنِ} إذا قُرىء، أي: لا تنصتوا له؛ لأنه يقلب القلوب، ويسبي العقول، وكل مَن استمع إليه صبا إليه، {والْغَوْا فيه لعلكم تَغْلِبون} أي: عارضوه بكلام غير مفهوم، أو: بالخرافات؛ من الرّجَز والشعر والتصدية، وارفعوا أصواتكم بها {لعلكم تغلبون} أي: تغلبونه على قراءته، وشوِّشوا عليه فيقع في الغلط، أو: لا يسمعه منه أحد. واللغو: الساقط من الكلام الذي لا طائلَ تحته.
{فلنذيقنَّ الذين كفروا} أي فوالله لنذيقن هؤلاء اللاغين والقائلين، أو: جميع الكفار، وهم داخلون فيهم دخولاً أولياً. {عذاباً شديداً} لا يُقادر قدره، {ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون} أي: أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم، وهو الكفر، وقيل: إنه لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم، كإغاثة الملهوفين، وصلة الأرحام، وقِرى الضيف؛ لأنها محبطة بالكفر، وإنما يجازيهم على أسوئها. عن ابن عباس: {عذاباً شديداً}: يوم بدر، و{أسوأ الذي كانوا يعملون}: ما يُجزون في الآخرة.
{ذلك جزاءُ أعداء الله النارُ} أي: ذلك الأسوأ من الجزاء هو جزاء أعداء الله، وهو النار. فالنار: خبر عن مضمر، أو: عطف بيان للجزاء، والنار: مبتدأ. و{لهم فيها دارُ الخلد}: خبر، أي: النار في نفسها دار الخلد، كما تقول: لك في هذه الدار السرور، وأنت تعني الدار بعينها، ويسمى في علم البلاغة: التجريد، وهو أن ينتزع من ذي صفة أمراً آخر مثله، مبالغةً، لكمالٍ فيه. تقول: لقيت من زيد أسداً. وقيل: هي على معناها، والمراد: أن لهم في النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة، هم فيها خالدون، {جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون} أي: جُوزوا بذلك جزاء بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا ويلغون فيها.
الإشارة: الآية تنسحب على مَن يرفع صوته بمحضر مجلس الوعظ والذكر، أو العلم النافع، أو صفوف الصلاة، فهذه المجالس يجب صونها من اللغو والصخب، ويجب الاستماع لها، والإنصات، والتوقير، والتعظيم، لأنها موروثة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهَمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3]، ومَن فعل شيئاً من ذلك فالوعيد بقوله تعالى: {فلنذيقن الذين كفروا...} الآية منه بالمرصاد. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6